سورة لقمان - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (لقمان)


        


{وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} قال السهيلي: اسم ابنه ثاران، في قول الطبري والقتبي.
وقال الكلبي: مشكم. وقيل أنعم، حكاه النقاش. وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما. قلت: ودل على هذا قوله: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. واختلف في قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فقيل: إنه من كلام لقمان.
وقيل: هو خبر من الله تعالى منقطعا من كلام لقمان متصلا به في تأكيد المعنى، ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] أشفق أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: أينا لم يظلم، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فسكن إشفاقهم، وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون خبرا من الله تعالى، وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد. و{إِذْ} في موضع نصب بمعنى اذكر.
وقال الزجاج في كتابه في القرآن: إن {إِذْ} في موضع نصب ب {آتَيْنا} والمعنى: ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. النحاس: وأحسبه غلطا، لان في الكلام واوا تمنع من ذلك. وقال: {يا بُنَيَّ} بكسر الياء، لأنها دالة على الياء المحذوفة، ومن فتحها فلخفة الفتحة عنده، وقد مضى في {هود} القول في هذا. وقوله: {يا بُنَيَّ} ليس هو على حقيقة التصغير وإن كان على لفظه، وإنما هو على وجه الترقيق، كما يقال للرجل: يا أخي، وللصبي هو كويس.


{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ} هاتان الآيتان اعتراض بين أثناء وصية لقمان.
وقيل: إن هذا مما أوصى به لقمان ابنه، أخبر الله به عنه، أي قال لقمان لابنه: لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك، فإن الله وصى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركا ومعصية لله تعالى.
وقيل: أي وإذ قال لقمان لابنه، فقلنا للقمان فيما آتيناه من الحكمة ووصينا الإنسان بوالديه، أي قلنا له اشكر لله، وقلنا له ووصينا الإنسان.
وقيل: وإذ قال لقمان لابنه، لا تشرك، ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسنا، وأمرنا الناس بهذا، وأمر لقمان به ابنه، ذكر هذه الأقوال القشيري. والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد ابن أبي وقاص، كما تقدم في {العنكبوت} وعليه جماعة المفسرين.
وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب. وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها.
الثانية: لما خص تعالى الام بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب، وللأب واحدة، وأشبه ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال له رجل من أبر؟ قال: «أمك قال ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أبوك» فجعل له الربع من المبرة كما في هذه الآية، وقد مضى هذا كله في {سبحان}.
الثالثة: قوله تعالى: {وَهْناً عَلى وَهْنٍ} أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف.
وقيل: المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل. وقرأ عيسى الثقفي: {وَهْناً عَلى وَهْنٍ} بفتح الهاء فيهما، ورويت عن أبي عمرو، وهما بمعنى واحد. قال قعنب ابن أم صاحب:
هل للعواذل من ناه فيزجرها *** إن العواذل فيها الأين والوهن
يقال: وهن يهن، ووهن يوهن ووهن، يهن، مثل ورم يرم. وانتصب {وَهْناً} على المصدر، ذكره القشيري. النحاس: على المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر، أي حملته بضعف على ضعف. وقرأ الجمهور: {وَفِصالُهُ} وقرأ الحسن ويعقوب: {وَفِصالُهُ} وهما لغتان، أي وفصاله في انقضاء عامين، والمقصود من الفصال الفطام، فعبر بغايته ونهايته. ويقال: انفصل عن كذا أي تميز، وبه سمي الفصيل.
الرابعة: الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع. وقالت فرقة: إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحو لين لا يحرم، وقد مضى هذا في البقرة مستوفى.
الخامسة: قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي} {أَنِ} في موضع نصب في قول الزجاج، وأن المعنى: ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي. النحاس: وأجود منه أن تكون {أَنِ} مفسرة، والمعنى: قلنا له أن اشكر لي ولوالديك. قيل: الشكر لله على نعمة الايمان، وللوالدين على نعمة التربية.
وقال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
السادسة: قوله تعالى: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قد بينا أن هذه الآية والتي قبلها نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم، وأن أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل، كما تقدم في الآية قبلها.
السابعة: قوله تعالى: {وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} نعت لمصدر محذوف، أي مصاحبا معروفا، يقال صاحبته مصاحبة ومصاحبا. و{مَعْرُوفاً} أي ما يحسن. والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي عليه الصلاة والسلام وقد قدمت عليه خالتها وقيل أمها من الرضاعة فقالت: «يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم». وراغبة قيل معناه: عن الإسلام. قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها. ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسد. وام عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
الثامنة: قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ} وصية لجميع العالم، كأن المأمور الإنسان. و{أَنابَ} معناه مال ورجع إلى الشيء، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين.
وحكى النقاش أن المأمور سعد، والذي أناب أبو بكر، وقال: إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا: آمنت! قال نعم، فنزلت فيه: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] فلما سمعها الستة آمنوا، فأنزل الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى} إلى قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ} [الزمر: 18- 17]. قيل: الذي أناب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن عباس: ولما أسلم سعد أسلم معه أخواه عامر وعويمر، فلم يبق منهم مشرك إلا عتبة. ثم توعد عز وجل ببعث من في القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.


{يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)}
المعنى: وقال لقمان لابنه يا بني. وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى. وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لان الخردلة يقال: إن الحس لا يدرك لها ثقلا، إذ لا ترجح ميزانا. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه، أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن اتباع سبيل من أناب إلي. قلت: ومن هذا المعنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن مسعود: «لا تكثر همك ما يقدر يكون وما ترزق يأتيك». وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، سبحانه لا شريك له. وروي أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في سفل البحر أيعلمها الله؟ فراجعه لقمان بهذه الآية.
وقيل: المعنى أنه أراد الأعمال، المعاصي والطاعات، أي إن تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله، أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه. وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف مضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى.
وفي القول الأول ليس فيه ترجية ولا تخويف. قوله تعالى: {مِثْقالَ حَبَّةٍ} عبارة تصلح للجواهر، أي قدر حبة، وتصلح للأعمال، أي ما يزنه على جهة المماثلة قدر حبة. ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر: قراءة عبد الكريم الجزري {فَتَكُنْ} بكسر الكاف وشد النون، من الكن الذي هو الشيء المغطى. وقرأ جمهور القراء: {إِنْ تَكُ} بالتاء من فوق {مِثْقالَ} بالنصب على خبر كان، واسمها مضمر تقديره: مسألتك، على ما روى، أو المعصية والطاعة على القول الثاني، ويدل على صحته قول ابن لقمان لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان له: {يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} الآية. فما زال ابنه يضطرب حتى مات، قاله مقاتل. والضمير في {إِنَّها} ضمير القصة، كقولك: إنها هند قائمة، أي القصة إنها إن تك مثقال حبة. والبصريون يجيزون: إنها زيد ضربته، بمعنى إن القصة. والكوفيون لا يجيزون هذا إلا في المؤنث كما ذكرنا. وقرأ نافع: {مِثْقالَ} بالرفع، وعلى هذا {تَكُ} يرجع إلى معنى خردلة، أي إن تك حبة من خردل.
وقيل: أسند إلى المثقال فعلا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه، لان مثقال الحبة من الخردل إما سيئة أو حسنة، كما قال: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} [الأنعام: 160] فأنث وإن كان المثل مذكرا، لأنه أراد الحسنات. وهذا كقول الشاعر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليها مر الرياح النواسم
و{تَكُ} هاهنا بمعنى تقع فلا تقتضي خبرا.
قوله تعالى: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} قيل: معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم، أي أن قدرته تعالى تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء والأرض.
وقال ابن عباس: الصخرة تحت الأرضين السبع وعليها الأرض.
وقيل: هي الصخرة على ظهر الحوت.
وقال السدي: هي صخرة ليست في السماوات والأرض، بل هي وراء سبع أرضين عليها ملك قائم، لأنه قال: {أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} وفيهما غنية عن قوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ}، وهذا الذي قاله ممكن، ويمكن أن يقال: قوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} تأكيد، كقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2- 1]، وقوله: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الاسراء: 1].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8